فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

{وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ}
التفسير:
قوله تعالى: {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ}.. الواو للعطف، وهو عطف حدث على حدث..
والمراودة: المخادعة، والمخاتلة، والتدسس إلى النفس في أسلوب من التلطف والاحتيال..
وهيت لك: هو صوت استدعاء لهذا الأمر الذي يكون بين الرجل والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، على هذه الصورة التي لم تعرفها اللغة العربية في لسانها قبل نزول القرآن.. لأنه يحدث عن حال من شأنه أن يكون سرا بين الرجل والمرأة، ولغة مفهومة لهما، لا يعرفها غيرهما.. وذلك إعجاز من إعجاز القرآن.. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة {هيت} وخذها على أنها حكاية صوت، لا على أنها من لغة التخاطب المتعامل بها في كل مقام!!.. إنها في مقامها هذا كلمة استدعاء.. وكفى!- وفي قوله تعالى: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها} إشارة إلى أنها ذات سلطان عليه، وأنه ربيب نعمتها، ونزيل بيتها.. وأن لها أن تأمر وعليه أن يطيع..
ولكنها جاءته مترفقة، متلطفة.. إذ كان هذا الأمر الذي تدعوه إليه لا يجاء له بأسلوب الأمر والقهر!- وفى قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ} إشارة إلى أنها هي التي تولت بنفسها الإعداد لهذا الأمر الذي دعته إليه.. فهى التي راودته عن نفسه بما ألقت إليه من كلمات، وإشارات، وتلميحات.. وهى التي غلقت الأبواب، فكانت تلك دعوة صريحة منها إليه.. ثم هي التي- حين رأت أن ذلك كله لم يدعه إليها، ولم يقرّ به منها- دعته إلى نفسها، وقالت:
{هَيْتَ لَكَ} أي هأنذا لك، فأقبل! وهذا ما لا تفعله الحرّة ذات الجاه والسلطان، إلا إذا كانت قد استبدّت بها الرغبة، ثم لم تجد من الجانب الآخر استجابة منه لها.. عندئذ تخلع عذار حيائها، وتتخلّى عن مكانتها كامرأة تطلب ولا تطلب!.. وفى كل هذا ما يحدّث عن تعفّف يوسف عليه السلام، وامتلأ كه لداعى الشهوة أمام هذه المغريات، التي تنحلّ لها عزمات الرجال، وتطيش معها أحلام ذوى الحلوم! {قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ومع كل هذا الذي ساقته المرأة إلى يوسف عليه السلام من جمالها، وسلطانها، ومن تلطّفها به، واستدعائها له، وعرض نفسها عليه، ومع هذا الشباب المتفجّر فيه، والدماء الحارة المتدفقة في عروقه- فإنه اعتصم بدينه، واستمسك بمروءته، فلم يقبل هذه الدعوة الآثمة، قائلا: {مَعاذَ اللَّهِ} أي عياذا باللّه، ولجأ إليه لدفع هذا المكروه عنّى..
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} أي إن هذا الفعل فوق أنه عصيان للّه، وتعدّ لحدوده، هو خيانة للمروءة، وإنكار لإحسان هذا السيد الذي رباه، وأحسن مثواه.. والمثوى: المأوى الذي يأوى إليه الإنسان..
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. الضمير في {إنه} ضمير الشأن.. أي إنه في أي حال وشأن لا يفلح الظالمون، الذين يعتدون على حقوق الناس، فيخونون الأمانة فيما اؤتمنوا عليه، أو يجحدون نعمة من كان له نعمة وفضل عليهم..!
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
اختلف المفسرون في معنى الهمّ الذي همّ به يوسف.. أهو همّ عزيمة، أم همّ رغبة؟ وهل هو همّ فعل، أم همّ ترك؟
وصريح اللفظ أنه عليه السلام همّ بها، كما همّت به.. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} هكذا صريح للفظ القرآنى.. فلا وجه إذا للتفرقة بين أمرين متساويين، لفظا ومعنى.. كذلك اختلف المفسّرون في قوله تعالى: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ}- اختلفوا في البرهان.. أهو ملك جاءه من اللّه؟ أم شئ وجده في نفسه؟ أم صورة أبيه يعقوب، وقد ظهر عاضّا على إصبعه، محذرا من هذا الخطر الذي هو مقبل عليه.. إلى غير ذلك من عشرات الصور التي صوّر فيها المفسّرون هذا البرهان.!
وهم في هذا كلّه إنما يريدون أن يدفعوا عن مقام هذا النبي الكريم أن يطوف به طائف من السوء، أو تنحلّ عزيمته أمام أية فتنة، أو تستجيب طبيعته لأى إغراء.. فمقام النبوة هو القمة التي لا ترقى إليها الشبه، ولا يرتفع إلى سمائها هذا الدخان المتصاعد من شهوات النفوس وأهوائها، حين تشبّ فيها نيران الشهوة، ويتّقد لهيب الفتنة؟ ولكن فات هؤلاء الذين ينظرون إلى النبي هذه النظرة- ونحن ننظر إليه كما ينظرون- فاتهم أن النبي بشر قبل أن يكون نبيّا.. وأنه حين يلبس ثوب النبوة لا يخلع ثوب البشرية أبدا..
وغاية ما هنالك أنها بشرية في أعلى مستواها وأشرف منازلها..
وعلى هذا، فإن الذي نطمئن إليه، هو أن هذا البرهان كان شيئا حسيا، أو بمعنى آخر، كان حدثا وقع في تلك اللحظة الحاسمة، فحال دون وقوع هذا الأمر، وكان صارفا عنه.. والذي لولاه لوقع! وهذا البرهان هو- واللّه أعلم- إشارة كانت تعلن عن قدوم العزيز إلى أهله.. إذ من المعقول جدا أن يكون للعزيز شارة من الشارات، ينبّه بها زوجه إلى أنه قادم إليها.. وذلك كرسول يتقدمه، أو نفير يعلن عنه.. أو نحو هذا..
شأن أصحاب السلطان، حين يغدون، أو يروحون، بين مجلس الحكم، ومجلسه الخاص في أهله وولده. وعلى هذا يكون المراد بربه هنا، هو سيده الذي ربّاه، وهو {العزيز} الذي يقول عنه: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ}.. ويكون بذلك، الضمير في {ربه} عائدا إلى ربه هذا.. وقد جاء على لسان يوسف أكثر من مرّة، الحديث عن السيد بلفظ الرب.. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.. {ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.
وهذا الحدث الذي كان سببا مباشرا في الحيلولة دون وقوع المعصية، هو بالنسبة ليوسف عليه السلام برهان من ربّه، وآية من آيات فضله عليه، وحراسته له..!
فالأسباب الموصّلة إلى الأعمال الطيبة، أو الحائلة دون السيئة، هي دليل على عناية اللّه وتوفيقه.. كما أن الأسباب المؤدية إلى الشرّ، أو الصارفة عن الخير، دليل على خذلان اللّه للعبد، وتخليته وأهواء نفسه ونزغات شيطانه! فللذين التقوا بالأنبياء والرسل، وكانوا من حوارييهم وخلصائهم، إنما انتصبت لهم الأسباب المسعدة التي وصلتهم بهم، ومكنت لهم من أن يقبسوا من الهدى الذي بين أيديهم! وكذلك الذين التقوا بالرسل والأنبياء، وكانوا حربا عليهم، وظلاما يحجب ضوء الهدى عن الناس- إنما اجتمعت لهم الأسباب التي وقفت بهم هذا الموقف، وساقتهم إلى هذا البلاء! فالأسباب، ألطاف من ألطاف اللّه، وآيات من آيات رحمته، يدنيها- سبحانه- من أوليائه، وييسرهم لها.. أو هي مزالق وعثرات يهوى إليها أعداء اللّه، ويتساقطون فيها.. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [5- 10: الليل] ومجئ العزيز، أو ظهور الشّارة الدالة على مجيئه في تلك اللحظة الحاسمة، هي آية من آيات اللّه، ورحمة من رحمته، ولطف من ألطافه، وحراسة قائمة على هذا النبي الكريم أن تزلّ قدمه.. وهكذا تحفّ ألطاف اللّه بعباده المخلصين، وتتداركهم رحمته، في أمثال هذه الساعات الحرجة.. يقول اللّه تعالى في يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [143- 144: الصافات].. فهذا التسبيح الذي ألهمه اللّه إيّاه، هو اللطف الذي أمدّه اللّه به، وهو حبل النجاة الذي أرسله إليه وهو في بطن الحوت..
ويقول سبحانه في يونس أيضا: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [48- 50: القلم] وفى هذا يقول تبارك وتعالى لمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا} [74- 75: الإسراء] ويقول سبحانه عن رسله جميعا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا} [110: يوسف] فالرسل، والأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- مبتلون بما يبتلى به الناس من فتن، تلحّ عليهم بأهوالها، فيتلقونها بعزماتهم، ويصدّونها بإيمانهم، ويستعصمون منها بكل ما في طاقاتهم من قوّى، حتى إذا استنفدوا كل ما في كيانهم من صبر وبلاء، وكادوا يهزمون في هذا الصراع المحتدم، جاءهم نصر اللّه، وتوافدت عليهم أمداده وألطافه، فربطت على قلوبهم، وثبتت من أقدامهم، وإذا هم في مقامهم الرفيع الكريم، وإذا الفتن صرعى بين أيديهم، ملففة في تراب الخزي والاندحار! وأي فضل لأنبياء اللّه ورسله على غيرهم من الناس، إذا هم لم يبتلوا هذا البلاء، وإذا هم لم يجاهدوا هذا الجهاد في مواجهة الفتن ومغالبة الأهواء والشهوات؟
وأي فضل لهم إذا كانت الفتن لا تحوم حولهم، وكانت الأهواء والشهوات تتساقط من نفوسهم من غير جهد وعناء؟ وأي فضل لهم يحمدون عليه، ويستأهلون به هذا المقام العظيم الذي هم فيه، إذا لم تتحرك فيهم دواعى الشهوات، ولم تنازعهم الأهواء؟
إن الثواب- كما يقولون- على قدر المشقة..
وهذا يعنى: أن نصيب أنبياء اللّه، ورسله، وأوليائه من المعاناة والمشقة أكبر نصيب، وأنه يقدر ما واجهوا من بلاء وفتنة بقدر ما كان لهم من منزلة عند ربهم..
وفى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فيما امتحن به، وفيما تعرض له، من فتن وابتلاء، في مشاعره، وعواطفه، ونوازعه.. فلقد شهد أهله يتمزّقون بين يديه شيعا، ورأى أتباعه وأحبابه يعذّبون بسياط الظلم بين يديه، ويموتون تحت وطأة هذا العذاب، كما رآهم وهم يخرجون مهاجرين، فارّين من وجه هذا البلاء، مخلّفين وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم.. ثم رآهم في ميدان القتال يخرون صرعى، يفدّونه بأنفسهم، وبودّه لو فدّاهم بنفسه..
وهكذا كانت حياة النبي ساعة بساعة، بل ولحظة لحظة، مسيرة شاقّة على درب طويل من الآلام والمحن.. وبهذا استحقّ تلك المنزلة التي استوى بها على هامة الإنسانية كلها، فكان سيد خلق اللّه، وخاتم رسل اللّه، وإمام أنبياء اللّه!! وعلى هذا، فإنّ لنا أن نفهم قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} على أن امرأة العزيز قد همّت به، وأنه عليه السلام همّ بها وكاد الأمر يقع، لولا أن تداركه رحمة من ربّه، فأقام هذا السبب المادىّ حائلا دون وقوع الفاحشة..
وفى هذا تتجلّى رحمة اللّه بأوليائه، ورعايته لهم! ومن جهة أخرى، فإن رسل اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليهم- ليسوا من عالم الملائكة، وإنما هم بشر، تتحرك في كيانهم نوازع الإنسان وشهواته، وأنّهم يغالبون هذه النوازع، ويمسكون زمام تلك الشهوات، ولكن إلى مدى، هو غاية ما يبلغه احتمال البشر.. حتى إذا كان النبي من أنبياء اللّه أو الرسول من رسله في مواجهة تجربة كهذه التجربة، التي استنفد فيها- كإنسان وكنبي معا- كلّ مالديه من صبر واحتمال، بشرىّ- جاءت أمداد اللّه، لتمد النبي في هذه المعركة التي لابد أن يكسبها، ويكتب له النصر فيها، وذلك لحساب النبوّة والرسالة، ولحساب النبي كنبىّ والرسول كرسول.. تماما كما جاءت أمداد السّماء لتشارك في معركة بدر، ولتقوم إلى جانب الجهد الإنسانىّ، في كسب أول معركة للإسلام، تلك المعركة التي كان لابد له أن يكسبها!!
قد أحسن الإمام البيضاوي، حين قال عن همّ امرأة العزيز بيوسف وهمّه هو بها: قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها.. والهمّ بالشيء: قصده والعزم عليه.. والمراد بهمّه عليه السلام، ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من اللّه، من يكفّ نفسه عند قيام هذا الهمّ ومشارفة الهمّ.
وفي قوله تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي بمثل هذا البرهان نجئ به إليه، لنصرف عنه {السّوء} أي الأذى، الذي تتعرض له فطرته السليمة {والفحشاء} أي المنكر الممثل في الزّنا. {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} هو تعليل لما أراد اللّه بهذا النبي الكريم من خير، فصرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباد اللّه الذي اصطفاهم اللّه، وجعلهم خالصة له.
{وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
حين رأى يوسف برهان ربّه، وهو الشارة الدلّة على مقدم العزيز إليهما- رأته معه كذلك امرأة العزيز، فأسرعا إلى الباب المغلق دونهما، وأسرع كل منهما طالبا الخروج من المخدع، وقد كان يوسف أسرع منها، فتناولته من خلف بيدها لتسبقه، ولتنجو بنفسها، فعلقت يدها بقميصه فقدّته من دبر، أي قطعته طولا، من الخلف.. وما كاد يفتح الباب حتى كان {العزيز} معهما وجها لوجه.. وكان جوابها حاضرا، إذ كانت تعيش في هذه المحنة أياما وليالى، وتفكر فيها وتقلّبها على جميع وجوهها واحتمالاتها.. ومن هذه الاحتمالات أن يعلم زوجها بالأمر، أو يضبطها متلبسة به.. فلما وقعت الواقعة، وجدت الجواب الذي أعدته. {قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وهكذا تتّهم، وتحكم في التهمة، فلا تدع لزوجها فرصة للتفكير فيما ينبغى أن يواجه به هذه الموقف.. فها هوذا الحلّ حاضر بين يديه، لا يحتاج منه إلى تفكير!- وفى قولها: {مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} إشارة إلى أن الأمر لم يجاوز حدّ الرغبة والإرادة.
وفي قولها {بِأَهْلِكَ} بدلا من قولها (بي) لتضيف نفسها إلى العزيز، فتثير عاطفته نحوها، على حين أنها تغريه بهذا الذي اعتدى على العزيز في أهله! {قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.